لم تكن غزوة بدر لكبرى غزوة عادية ولا معركة هُزم فيه العدو، وإنما كانت معركة فاصلة في الإسلام أعادت له هيبته وحجزت له مكانته ودكت حصون الكفر ؛ لذلك سماها الله في كتابه بالفرقان.
علاوة على ذلك خلدت لنا بدر الكبرى مواقف جديرة بالتأمل وخليقة بالنظر والاعتبار تجسدت فيها معاني الإباء وعزة الإسلام، خلد أصحابها أرقى أنواع الفداء والتضحية في سبيل الإيمان الخالص. مواقف تصور لنا ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من إقدام واستسهال للصعاب في سبيل إعلاء كلمة الله والإسراع إلى الجنان.
1- الاستعداد
حين انشكف الجد وبان الواقع عن أنيابه وظهر أن لا بد مما ليس منه بد، فاللقاء كائن لا محالة وهذه قريش أقبلت بخيلائها، أعدت عدتها وأزمعت أمرها فلا مجال للتراجع ولا مناص من مقارعة العدو، حين ظهر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم كان في نفسه شيء من أمر الأنصار وقد كانوا بايعوه بالعقبة على أن ذمتهم منه براء حتى يصل المدينة فإذا وصلها حموه مما يحمون منه نساءهم وذراريهم.... فأراد أن يستوثق، فاستشار أصحابه فقام أبو بكر فأحسن وقام عمر فأحسن ثم قام المقداد فقال كلماته الخالدة لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الأنصار، فقال: (أشيروا) ففهم الأنصار ذلك فقام سعد ابن معاذ له؛ فكان مما قال: امض يارسول الله لما أردت فنحن معك ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى عدونا غدا، إنا لَصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ عند اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر على بركت الله.
وفي رواية: لعلك أن تكون خرجت لأمر وأحدث الله إليك غيره، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض، فصل حبل من وصلك واقطع حبال من شئت، وعاد من شئت وسالم من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت وأعطنا ما شئت، وما أخذت منا كان أحب إلينا مما تركت.
لسان حاله: ليست المسألة مسألة بنود واتفاقيات، وإنما هي بيعة مع الله أعظم وأجل، تتضمن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
فسر النبي صلى الله عليه وسلم وقال سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين.
2- على ميدان المعركة
لم تكن مواقفهم كلاما عابرا أو تنظيرا سابقا للمعركة، وإنما كان على أرض الواقع حين تلاقى الجمعان وضربا للهام عند الزحام؛ عند أول لقاء في المعركة بارز عتبة ابن الحارث فطعن بعد أن قتل نظيره فجروه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوضع خده على قدمه الشريف وقال يارسول الله لو رآني أبو طالب لعم أني أحق منه بقوله:
ونسلمه حتى نُصرع دونه ونذهل عن أبنائنا والحلائل
إقدام واقتحام للخطر واستصغار للنفس في سبيل نصرة الدين؛ روى أحمد في مسنده أن المشركين لما دنوا قال رسول اله صلى الله عليه وسلم لأصحابه قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض؛ فقال عمير بن الحمام الأنصاري يارسول الله عرضها السموات والأرض! قال نعم. بخ بخ قال رسول الله ما يحملك على قول بخ بخ؟ قال لا يارسول الله إلا رجاء أن أكون من أهلها! قال فأنت من أهلها. فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكلهن، ثم قال لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها حياة طويلة. فما زال حتى قتل.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعدل الصفوف يوم بدر، فتقدم سواد بن غزية أمام الصف، فدفع النبي صلى الله عليه وسلم بقدح في بطن سواد بن غزية، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: استو يا سواد! فقال له سواد: أوجعتنى، والذي بعثك بالحق نبيا، أقدني! فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه، ثم قال: استقد! فاعتنقه وقبله، وقال له: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: حضر من أمر الله ما قد ترى، وخشيت القتل، فأردت أن يكون آخر عهدي بك، أن أعتنقك. إنه الحب العظيم!
كان الصحابة يومئذ يجدون في البحث عن صناديد قريش وقادتها للإجهاز عليهم وقتلهم؛ يقول عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر ، إذ التفت فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حدثا السن، فكأني لم آمن بمكانهما، إذ قال أحدهما سرا من صاحبه: ياعم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنع به؟ قال عاهدت الله إن رأيته أن أقتله أو أموت دونه! وقال لي الآخر سرا من صاحبه مثله. قال: فما سرني أني بين رجلين مكانهما. فأشرت لهما إليه فدا عليه مثل صقرين فضرباه حتى قتلاه.
3-لقاء ذوي الأرحام
حين تزاحم الجمعان التقى الآباء بالأبناء والإخوة بالإخوة، لكن ذلك لم يثن الصحابة عن القتال إعلاء لكلمة الله وجهادا في سبيله؛ فكان عتبة ابن ربيعة أول من بارز المسلمين وكان ابنه أبو حذيفة من خيار الصحابة، فلما سحبت جثة عتبة لترمى في القليب، نظر رسول الله إلى أبي حذيفة فإذا هو كئيب قد تغير لونه! فقال: يا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟ فقال لا والله يارسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه ذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك.
ومما يروى كذلك أن عبد الرحمن بن أبي بكر كان في صفوف المشركين يوم بدر وأبوه أبو بكر الصديق في صفوف المسلمين، فلما أسلم عبد الرحمن قال لأبيه لقد أهدفت لي -أي أشرفت لي- يوم بدر فأعرضت عنك مخافة أن أقتلك، فقال أبو بكر لكنك لو أهدفت لي لم أنصرف عنك. هنا يتجلى الإيمان الخالص الذي يكون صاحبه مستعدا لقتل ابنه في المعركة، ومحبة النبي صلى الله عليه وسلم الصادقة التي يفتديه صاحبها بكل شيء "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه...."
4- الدعاء والابتهال
من الرسائل المستفادة من غزوة بدر الكبرى أن الدعاء والتضرع إلى الله تعلى واستمداد العون منه أمر لا غنى عنه، وأن النصر مهما توفرت أسبابه واُعدت عدته يبقى مفتقرا إلى الخالق والالتجاء إليه. لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطمئن أصحابه بأن النصر لهم، بل كان يشير إلى أماكن متفرقة من الأرض فيقول: "هذا مصرع فلان..." وكان الأمرُ فما تزحزح أحد منهم عن الموضع الذي أشار إليه قيد أنملة، مع ذلك فقد كان يجأر بالدعاء تضرعا وابتهالا باسطا يديه إلى الله أن يؤتيه النصر الذي وعده، حتى سقط رداؤه وأشفق عليه أبو بكر قائلا: "كفى يارسول إن الله منجز لك ما وعد"
فهذا التضرع والابتهال وتجسيد العبودية لله بالالتجاء إليه بالدعاء هو الذي استحق ذلك النصر المؤزر والفتح العظيم {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
فالدعاء سلاح عظيم وأداة من أدوات النصر لا ينبغي للمؤمن أن يغفلها.
يقول الشيخ البوطي رحمه الله مقارنا بين تضرع النبي صلى الله عليه وسلم وتكبر أبي جهل وعتيه: (.. قارن مظهر العبودية التي تجلت في موقفه صلى الله عليه وسلم ونتائج ذلك، مع مظهر ذلك الطغيان والتجبر الذي تجلى في موقف أبي جهل حينما قال: "لن نرجع عن بدر أبدا حتى ننحر الجزر ونطعن الطعام ونسقي الخمر وتعزف لنا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا" وتأمل في نتائج ذلك الجبروت!
لقد كانت نتيجة العبودية لله عزة قعساء ومجدا شامخا خضع لهما جبين الدنيا بأسرها، ولقد كانت نتيجة الطغيان والجبروت الزائفين قبرا من الضيعة والهوان أقيم لأربابهما حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر وتعزف لهم القيان. وتلك هي سنة الله في الكون كلما تلاقت عبوديةٌ لله خالصة مع جبروت وطغيان زائفين.)
محمد ولد الناجي
هاشتاك غزوة بدر الكبرى
قسم تحرير الأخبار وصناعة المحتوى