صدرت مؤخرا عن المركز الثقافي للكتاب، رواية "الشنقيطي"، وهي رواية للكاتب الموريتاني الدكتور السيد ولد أباه، وتعتبر - حسب ما اطلعت عليه - باكورة كتاباته في المجال الروائي، فقد ألفناه منشغلا بالكتابة الفلسفية والفكرية والاجتماعية، مهموما بفضِّ التشابك بين الدين والسياسة، وإن كنا لا نعدم قَبَسًا من كل ذلك في روايته هذه.
الدكتور السيد ولد أباه، مولود في حاضرة النباغية بولاية اترارزة، حائز على دكتوراه في الفلسفة الحديثة والمعاصرة من جامعة تونس سنة 1992، و أُستاذ الدراسات الفلسفية و الاجتماعية بجامعة نواكشوط. له كتب ودراسات ومقالات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
الرواية شكلا:
تقع رواية "الشنقيطي" في 216 صفحة من الحجم المتوسط، وقد أُخرجت بشكل أنيق؛ فعلى غلافها تتربع صورة جميلة لجامع مدينة شنقيط التاريخية بمئذنته الشهيرة، وفي الجانب الآخر من الغلاف مقتطف من خواتم الرواية لا تَخفى مراميه التأملية العميقة، ونظرته الفلسفية للنهايات، وتشبثه بالعودة للأصول.
طبعت الرواية طباعة فاخرة مستهل هذا العام (2021) في طبعة أولى، وقد توزعت بين ثمانية فصول، واستُهلَّت بإهداءٍ للأمير محمد فال ولد عمير ولد سيدي ولد محمد لحبيب الذي توفي سنة 1965.
لا تخلو الرواية من بعض الأخطاء المطبعية القليلة كاستبدال نقطة بنقطتين أو نقطتين بنقطة أو حذف حرف من كلمة، إلى غير ذلك من الأخطاء، وأشدّها ما كان له علاقة ببعض الأبيات الشعرية المتناثرة في الرواية طولا وعرضا، وقد لاحظت ذلك رغبة في أن يتم التنبه له في الطبعة الثانية القادمة؛ فرواية "الشنقيطي" من الروايات التي ستطبع كثيرا وتدرس كثيرا، لما تحمله من تاريخ وثقافة وفكر.
الرواية مضمونا:
تروي الرواية فصولا مهمة وحقبا مشهودة من تاريخ هذا الحيز الصحراوي الساحلي الذي سيَتَسَمى الجزء الأكبر منه والأهم فيما بعد بموريتانيا، وتصور بدقة النظم الدينية والسياسية والثقافية والاجتماعية التي كانت تحكمه، والعلاقات التي تربط بين مراكز القوة والتأثير فيه، وتربط بينها ومحيطها القريب والبعيد، والأقطاب المهيمنة على العالم في ذلك العصر.
وترسم الرواية مسار التعلم والتفقه والتأدب والتصوف الأبدي الذي يسلكه أبناء تلك الصحراء العالمة في حياتهم.
وتعود الرواية في أكثر من موضع، للتحدث عن العلاقة المضطربة والحيوية بين الدين والسياسة، بين العلم والحُكم، بين الفكر والشوكة.
وتعتمد الرواية تقنية أو فكرة العودة للأصول والانطلاقة من هناك في سرد الأحداث.
كتبت الرواية بلغة جزلة غير معقدة وخالية من التكلف، مما يجعل العيش معها ممتعا ومفيدا، تُسلمك فيه الحروف للكلمات والكلمات للجُمل!
الرواية وإن كانت اختارت ظرفا زمانيا ومكانيا محددا، لأحداثها الشيقة وشخوصها المميزين، فإنها صالحة للتعبير مطلقا عن الزمان والمكان الصحراويين المفتوحين،
وإذا كانت اتخذت من الشاعر والقاضي ولد رازكه بطلا لها، وكانت قصة حياته موضوعا لها، فإنه يمكن إسقاطها على غيره من فتيان زمنه والزمن الذي يليه.. كما أن الأطراف الفاعلة في الرواية والأحداث البارزة فيها قابلة كلها للإسقاط على غيرها؛ وهكذا فإن الرواية التي تحكي قصة واقعية رويت بعناية وتثبت، قابلة لأن تكون رمزا، وأن تقرأ من أوجه متعددة، وتؤول في أكثر من اتجاه.. وصولا إلى زمننا الراهن الصعب.
تبدأ أحداث الرواية من تفتق مدارك ذلك الفتى الشنقيطي اليافع، في مدينته، على وقع هجرة جده العالم الغاظي (القاضي) إلى منطقة الكبله، احتجاجا على الفتنة في المدينة، وقد تربى الفتى في أحضان والده القاضي العالم، ودرس القرآن الكريم وبعضا من كتب السيرة النبوية الشريفة
و دواوين الشعر الجاهلي، ثم رحل إلى مدينة وادان غير البعيدة من مدينته شنقيط، وهذا منهج أدمنه أهل هذه البلاد الصحراوية؛ فمن عادة القوم أن يدرِّسوا أبناءهم القرآن الكريم وبعضا من كتب المختصرات وبعضا من كتب الأدب واللغة، ثم يرسلوهم إلى محاضر متخصصة خارج حيزهم الضيق، ليس لأنه لا توجد لديهم محاضر متخصصة، ولكن لإكساب أبنائهم تجربة وجعل ذهنياتهم تتفتح على عوالم غير العوالم التي ألفوها..
بدأ الشاب الشنقيطي المتقد ذكاء، الدراسة في وادان على الشيخ الواداني: أحمد أيدَّ القاسم، بدراسة مختصر الشيخ خليل؛ عماد الدرس الفقهي عند أهل هذه البلاد، ويصف الشنقيطي شيخه الوداني بأنه حجة في هذا الفن ولديه سند عالٍ في مختصر خليل يرجع إلى شارحه الحطاب.
هذه الأسانيد سيكون لها تأثيرها على تشكل المدارس الفقهية في هذه الربوع؛ فقد نحت إحدى المدارس الفقهية عندنا منحى أمهات المذهب المالكي كالمدونة وحاذت منهج جهابذة فاس و استدركت على من سبقوها وناقشتهم في بعض ما ذهبوا إليه، ومثَّل هذه المدرسة في مرحلة ما العلامة: محنض بابه ولد اعبيد.
أما المدرسة الأ خرى فقد سلكت مسلك تلامذة خليل نفسه و كتب الفروعيين المتأخرة وبالخصوص شروح المصريين كالأجهوري وأصحابه، والطرابلسي (الحطاب) وغيرهم.. و مثَّل هذه المدرسة في مرحلة من تاريخها العلامة محمد ولد محمد سالم.
بعد أن أخذ الفتى الشنقيطي بحظ وافر من علوم أهل وادان، عاد إلى موطنه شنقيط و واصل الدراسة على علمائها وفقهائها؛ وتصور الرواية جوانب من واقع تلك الحاضرة الإسلامية الهادئة التي تنام وتسيتقظ في قلب الصحراء تظللها باسقات نخيلها الوارفة، ويسقيها سلسبيل علمها الفياض، ويأتيها رزقها رغدا من كل مكان، تلك المدينة التي حملت اسم هذا الحيز الجغرافي الفسيح الذي أصبح ذكره مرادفا للعلم والحفظ وحدة الفهم والشعر والأدب.
أقام الفتى الشنقيطي بعض الوقت في موطنه شاحذا معارفه وتجاربه، ثم شد الرحال إلى منطقة الكبلة سيرا على سنن جده الشيخ الغاظي الذي التقاه لأول مرة في حيه على أطراف "إكيدي" وعلى مرمى حجر من "رقابِ العقل" وقد خاطب الجد حفيدَه عند رؤيته : "ذاك ول رازكه"؛ حياء من ذكر ولده البكر؛ والد الفتى الشنقيطي.
في هذه الفترة كانت حرب "شر ببه" قد وضعت أوزارها للتو وبدأ الأمر يستتب للمغافرة، وشرع الزوايا يعودون إلى محاضرهم، تلك العودة التي ستكون بداية للنهضة العلمية والثقافية الكبرى التي شهدها هذا الحيز خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، وهي النهضة التي سترسخ مركزية هذا الفضاء الدينية والثقافية.
وتتحسر الرواية على ما كان في حرب "شر ببه" من ضياع للجهد المشترك بين أهل العلم والشوكة، وما نتج عن ذلك من تفكك داخلي أطمع الخارج المتربص، وسهل مهمة العدو الكافر في التغلغل في البلاد، وحدَّ من الفتوحات جنوبا التي أدخلت الناس في الدين الحق وحمتهم من الغزاة الذين يستعبدونهم.
في هذا الجو نسج الفتى الشنقيطي علاقته مع ابن أمير اترارزة الذي سيصبح أميرها القوي لا حقا، وسيلعب هو أدوارا حاسمة في إمارته، الأمير أعلي شنظوره، ومع بعض من أجلة العلماء وأهل الرأي في المنطقة مثل الشيخ محمد اليدالي والشيخ مينحنا وقاضي الإمارة القاضي المختار ولد اتفغ موسى.
بعد ذلك عاد الفتى الشنقيطي إلى موطنه شنقيط من جديد، مقيما فيها بعض الوقت، قبل أن ينتقل قاصدا حج بيت الله الحرام وزيارة روضة النبي عليه الصلاة والسلام، وقد أقام في المغرب الأقصى مدة توطدت فيها علاقته بأهل العلم والتصوف وأهل السياسة والحكم،
وتنقل الرواية نموذجا من التلاقح الحضاري ولفكري مع المحيط، يظهر فيه القادمون من هذه البلاد البعيدة عن مراكز الحضر ومصاب الفكر، بمظهر العارف الحافظ المتقد فهما وأدبا وشعرا؛ المبهر لكل من يلقاهم.
عاد الشنقيطي من جديد إلى صحرائه وأهله، وشارك في مرحلة من مراحل تدبير شؤون إمارة صديقه الأمير أعلي شنظوره، ثم سارا معا إلى المغرب الأقصى بحثا عن دعم يمكِّن التروزي من تثبيت أقدامه في محيط صعب بدأت القوى الكبرى تنظر إليه باهتمام كبير، و وصلت فيه العلاقات بين أطرافه الداخلية مراحل متقدمة من التوتر والنظر الشزر والشكوك في النوايا، وقد كان لعلاقة الفتى الشنقيطي بشيوخ وأمراء تلك البلاد المجاورة دور كبير في نجاح تلك المهمة.
ساهم ما تحصل عليه أمير اترارزة من دعم كبير في توطيد دعائم حكمه إلى حين.
وتصور الرواية جانبا من المشاكل الداخلية التي عاشتها الإمارات المغفرية فيما بينها، وعدم الثقة المتبادل، وانشغالها بصراعات جانبية وحزازات ضيقة، وعدم اندمال الجراح الغائرة التي خلفتها حرب "شر ببه" مع الزوايا الذين فتحوا تلك الصحراء وأقاموا فيها رباطي العلم والجهاد.
بعد ذلك يتوجه الفتى الشنقيطي إلى الحج، وهذه المرة ينجح في الوصول إلى مكة والمدينة، بعد أن مرَّ بالمغرب، وقد مكّنه فهمه الثاقب وإخلاص أصداقائة من النجاة من بطش ابن سلطانها الثائر على حكم أبيه.
وتسبر الرواية أغوار جانب من تاريخ أهل هذه البلاد مع الحج، وطريقهم الصعبة الطويلة إليه، وما يحظون به من تقدير وإجلال وإكبار في المغرب والمشرق، وما يعودون به من كتب نفيسة، ثم تتحدث عن حقوقهم التاريخية في أوقاف أهل الحجاز وما اكتنف ذلك من نزاعات، و قضية الانتماء المزدوج المزمنة لهذا الحيز لأهل السودان وأهل المغرب الأقصى، ومع أيهم نكون؟ أم نكون معهم معا.
وبعد أن حج الفتى الشنقيطي عاد من جديد إلى أرضه متنقلا بين حاضرته شنقيط ومضارب "محصر" صديقه الأمير أعلي شنظوره ليشهد فصولا أخرى من علاقة تلك الإمارة مع جوارها الداخلي ومحيطها الخارجي، ويشاهد عديد انتصاراتها وبعض انكساراتها، ويذهب رسولا عنها إلى بعض الإمارات الداخلية بحثا عن أرضية مشتركة للتفاهم ثم التعاون، ويحرر رسائلها إلى أبرز القوى المتحكمة في العالم، يكتب مواثيقها وعهودها مع أصدقائها وخصومها.
وتكشف الرواية جوانب من حياة المجتمع الثقافية؛ حين نجد أنفسنا في "احْلل" إدوعيش في مرتفعات "تكانت" و "أكان"، وندخل مضارب شيوخ وسلاطين أولاد امبارك في الحوظ حيث ازدهرت "التيدنيت" وأخذ الفن الموسيقي الوطني شكله الذي سيسافر به عبر الأزمنة والأمكنة والأسماع والقلوب والأرواح.
يشاهد الفتى الشنقيطي نهاية حكم صديقه الأمير أعلي شنظوره، الذي سقط قتيلا في معركة من معاركه الكثيرة، بعد أن أمضى قرابة العقدين من الزمن متربعا على عرش إمارته.. لقد كان على الفتى الشنقيطي أن يشاهد مبتدأ ذلك الأمير وخاتمته.
عاد الفتى الشنقيطي من جديد إلى حاضرته الأثيرة شنقيط، ولكنه هذه المرة عاد وقد أثقلت السِّنُون عليه، ليمضي فيها بقية أيامه متأملا في دهر قُلَّبٍ حلب شطريه وذاق حلوه ومره، ومقدما خلاصات فكره الثاقب وتفكيره المستنير، ومتجهزا لرحلة أخرى إلى عالم الخلود.. وهكذا كان على شنقيط أن تشهد هي الأخرى البداية والنهاية.
الصحفي والأديب النبهاني ولد أمغر
مسؤول قسم المقابلات